الطيــب صالح وذاكرة الحلــم
في ذكرى أديبنا الراحل/المقيم عبقري الرواية العربية الذي نقل واقعنا بكل صدق وعفوية، أورد اليكم مقالا كنت كتبته عن هذا الأديب الكبير. وهذا المقال كان في الأصل جزءا من دراسة أعددتها ضمن بحث بعنوان (الاتجاهات الأدبية الحديثة عند كل من الكتاب الأفريقيين والعرب) قدمته لقسم الدراسات العليا بجامعة فاس أثناء تحضيري لدبلوم الدراسات العليا في النقد المقارن، ،نشرت المقال اول مرة في الملحق الثقافي لجريدة المدينة المنورة (ملحق الأربعاء) في العام 1985م ثم نشرته مرة أخرى في جريدة الخرطوم في العام 2001م ، ورأيت أن اقدم المقال كما كتبته أول مرة دون أية اضافات تعميما للفائدة في أول ايام رحيله عليه رحمة الله تعالى
====================
الطيب صالح وذاكرة الحلم
قراءة بنيوية في موسم الهجرة الى الشمال
كتب الطيب صالح راويته الشهيرة (موسم الهجرة الى الشمال) ونشرها كاملة عام 1966م في مجلة "حوار" اللبنانية التى كان يصدرها الأستاذ توفيق صائغ، وعلى الرغم من أن الطيب صالح نشر عدة روايات أخرى لا تقل روعة عن (موسم الهجرة الى الشمال) مثل " عرس الزين" و " دومة ود حامد" و"بندرشاه" الا ان موسم الهجرة تمثل محور ابداع الطيب صالح، فالمبدعون عادة ما يكون لهم عمل محدد يشكل بصمتهم المميزة ومرتكز ابداعهم، وقد يتأتي لهم ذلك في بداية مشوارهم الابداعي وقد يتأخر الالهام أو يقضون نحبهم دون تحقيق هذا الحلم، وما من شك في أن تميز موسم الهجرة الى الشمال يعزى الى ذلك المخزون الثقافي المدار الذى استحضره الطيب صالح في لحظة صفاء ذهني أشبه بالحلم الذى يعيد صياغة الأشياء وفق رؤية متعلقة بتجليات النفس المنعتقة من قيد الشعور.
لقد تحرر الطيب صالح في هذه الرواية من الشكل التقليدى للرواية العربية واتبع أسلوبا روائيا جديدا، وكما يشير عنوان الرواية فان الطيب صالح يتعامل مع رحلة موسمية نحو الشمال تحمل شخصياته من مركز العالم في قلب أفريقيا الى أوربا ثم تعود بهم الى نقطة الانطلاق حيث تبدا الأشياء وتنتهي0 هذه الرحلة رمزية وتاريخية مثل رحلات كونراد " (جوزيف كونراد 1857-1924 روائى انجليزى من اصل بولندي تعتبر روايته " قلب الظلام أHeart Of The Darkness " أضخم نتاج أدبى في الانجليزية تجري أحداثه في أفريقية).
تعتبر موسم الهجرة الى الشمال حدثا مهما في تطور أدب الطيب صالح ونقطة تحول في تاريخ الرواية العربية، وهي تعبر عن النضج الفني لدى مؤلفها وسيطرته على تقنيات الرواية. والرواية موجز لثلاث مستويات من التفاعهل ما بين الشرق والغرب، والعالم الأبيض والأسود، وأخيرا الاسلام والمسيحية0 ففي المرحلة الأولى لهذه الجدلية نرى ان الامبريالية الغربية تسيطر على العالم، بعد ذلك نعايش حركة يقظة الشعوب ثم ظهور الدول المستقلة في كل من آسيا وأفريقيا. ان فكرة الصراع بين الشرق والغرب والتي هي محور الرواية كانت مطروقة من قبل العديد من الروائيين العرب منهم توفيق الحكيم ، وسهيل ادريس وغيرهما، غير أن الجديد في موسم الهجرة الى الشمال هو كيفية تناول هذه القضية.
تبدأ الرواية بمصطفي سعيد والذى قدمه الطيب صالح رجلا غير عادي، لمع منذ نعومة أظفاره في المدرسة الابتدائية، ثم سافر الى القاهرة لاستكمال دراسته الثانوية ومنها انتقل الى لندن للدراسة الجامعية حيث حصل هناك على شهادة جامعية عليا أهلته لتدريس الاقتصاد في جامعة لندن، كما جعلته يساهم بابحاث عديدة تتناول بالدرس مواضيع لها علاقة بالأدب والفن والسياسة..
وقبل أن يصل مصطفى سعيد الى هذه المكانة رأيناه طفلا باردا كحقل جليد " لا يوجد في العالم شيء يبهره" يعيش مع أمه التى يفارقها ذات يوم ويخلف وراءه بلدا كان مثل جبل ضرب خيمته عنده وفي الصباح اقتلع الأوتاد ثم أسرج بعيره وواصل الرحلة الى القاهرة ليعيش مع السيد روبنسن وزوجته، ثم سافر بعد ذلك الى لندن ليقيم فيها سنوات عديدة لا سلاح له فيها سوى المدية الحادة التى تستقر في جمجته، ولا شىء يلو صدره سوى احساس بارد جامد(ص2) وكان أن أقام علاقات غرامية مع أربع فتيات هن (ازابيلا سيمون ، وشيلا غرينود، وآن همند، وجين موريس) وقد انتهت هذه العلاقات بانتحار ثلاث منهن أما الرابعة (جين موريس) فقد تزوج منها ثم قتلها فكان نتيجة ذلك أن قضى سبع سنوات في السجن عاد بعدها الى احدى قرى شمال السودان حيث اشترى أرضا تفرق وارثوها، ثم تزوج حسنة بنت محمود التى انجبت له ولدين، واندفع في حياة أهل القرية ليشاركهم أعمالهم بانتظام ويسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والاتراح لكنه يخفى عنهم ماضيه، بيد أن مجلس شراب لدى محجوب كان سببا في اثارة فضول الراوي لمعرفة لغز هذا الرجل، ومنذ تلك اللحظة أصبح الراوى جزءا من عالم مصطفى سعيد، فانكب على مصيره الى أن صار في الأخير وصيا على أولاده، يحس بانجذاب نحو حسنة بنت محمود التى ستقتل نفسها في نهاية الرواية بعد أن تتخلص من ود الريس الذى أرغموها على الزواج منه.
ذلك هو الملخص المختصر للرواية، وان كانت الرواية في مجملها لا تحتمل الاختصار لأنها كالقطعة الموسيقية تستمد حلاوتها من حيث هى كل، وتكتمل بتضافر الأجزاء وانصبابها في المجرى العام للرواية
الشكل البنيوي للرواية:
الرواية في مجملها مروية عن طريق السرد المبنى على ضمير المتكلم سواء حينما يتحدث الراوي أو مصطفى سعيد بطل الرواية، ويخضع السرد الى نقلات سريعة الى الوراء، يقل الدكتور حسن المنيعى " وفيما تتدفق عملية السرد المركز تبدو التفاصيل اما في صورة فلاش باك أو لمحات واعية أو لاواعية عن طريق انسياب لقطات تلاحق شخصيات الرواية وترصدها في الأحداث دون مراعاة الامتداد الزمني المتواصل. ذلك ان كل فترة تحدد انطباعا معينا وبالتالى ليست هناك رؤية أحادية بل العديد من الرؤى التى تجعل البناء يسير ضمن تيارات مختلفة كالرومانسية والواقعية الفنية والرمزية الهادفة وتكنيك الرواية الجديدة الى غير ذلك من الأساليب التى تؤكد حركة ديناميكية وتجعل الشكل ينمو متناسقا مع المضمون (مجلة اقلام المغربية عدد 10 اكتوبر 1979م)
ان الكثافة والرمزية الهادفة التى يتميز بهما أسلوب الطيب صالح في موسم الهجرة الى الشمال مستمدان من الموروث الشعبى الذى استطاع الطيب صالح توظيفه في الرواية، فكانت بحق مجمعا للأمثال الشعبية السودانية ورصدا للتقاليد والأساطير المحلية، فقد استخدم الطيب صالح الحلم ليكشف به بعض علاقات الواقع ، كما استخدم أيضا ظاهرة تأويل حركة بعض أعضاء الجسم وربطها بأحداث مستقبلية ، يستخدم الطيب صالح هذه الظواهر فيجعل من الأحداث المتشابهة علاقة ببعضها البعض ليؤكد لنا أن الواقع ليس هو المشاهد خارجيا بل ان هناك واقعا آخر داخل كل فرد منا. يقول الناقد المصري رجاء النقاش " الطيب صالح يعبر عن مشاكل الانسان الداخلية العميقة، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته الى الحياة والمصير الانساني كله. وكان الفتح الروحي والأدبي الذي قدمه الطيب صالح للرواية العربية هو أنه لجأ الى نبع جديد لم يشرب منه أحد من قبل في مجال الأدب الروائي العربى فقد تجاوز الطيب صالح العالم الواقعي الى عالم آخر اسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق (عالم ميثيلوجي). قصص الطيب صالح هي نوع من الأحلام ولكنها ليست أحلام فرد، وانما هي أحلام تراكمت في وجدان أمتنا ومجتمعنا جيلا بعد جيل " (مجلة الدوحة العدد28-1978)
ويستخدم الطيب صالح في هذه الرواية لغة شاعرية، تنتظم في ايقاع داخلي منذ أول كلمة فيها والى آخر عبارة، كما ان الانتقال من الفصحى الى الدارجة يتم في اتساق وتناغم تامين لا تكاد تحس باي نشاز أو تنافر خلال عملية الانتقال هذه. وقد ترصعت الرواية بوصف آثر للبيئة التي جرت فيها الرواية ، البيئة القروية، التي شكلت لحمة السرد الروائي ، بحيث يشكل النيل المتدفق صوب الشمال، والنخيل المشرئبة بأعناقها الى السماء وكأنها في دعاء سرمدي، والمنازل الطينية المنحدرة من النيل والمتلاشية عند التقاء الآل بالأفق البعيد، كل هذه الصور تمثل آجره الذى ينحت منه شكل روايته، وقد بلغ حدا من البراعة في الوصف الآثر الى الدرجة التى قد تدفع بالقارىء الى الاعتقاد الجازم بوجود كافة شخصيات الرواية : سعيد التاجر، ود الريس، حسنة بت محمود، محجوب، بت مجذوب وربما قد يدفعك هذا التأثر الى الذهاب الى أمبكول أو دبة الفقراء أو الى ذلك القصر المنيف (قصر بندرشاه) الذى يقع بين امبكول ودبة الفقراء والسؤال عما جرى لمصطفى سعيد أو للعزاء في ود الريس.
ان أهم ما يميز موسم الهجرة الى الشمال من ناحية الشكل هو هذا الأسلوب الساحر واللغة الجميلة التي استخدمها الطيب صالح بشكل معجز ، ومن هذه الناحية تعتبر موسم الهجرة الى الشمال من النصوص الأدبية الخالدة في الأدب العربي.
المحور الأخير في موضوع الشكل الروائي لموسم الهجرة الى الشمال هو زمن الرواية، فللرواية زمنان: زمن حاضر وزمن غائب، والزمن الغائب هو الزمن الحقيقي للرواية ، لأن الزمن الحاضر – وهو فترة ما بعد استقلال السودان في عام 1956م – عبارة عن مفاتيح ومداخل يلج من خلالها الراوي الى زمن الرواية الحقيقي لمتابعة قصة مصطفى سعيد. والرواية عموما تشمل الفترة الحديثة من تاريخ السودان منذ قيام الثورة المهدية عام 1885م والى ما بعد استقلال السودان. ويربط جد الراوي بين جميع هذه الحقب. وقد وقعت أحداث الرواية الحقيقية في العشرينات من القرن الماضي وبالتحديد ما بين عامي 1921-1922م وان كان الحلم الذى عاش فيه مصطفى سعيد امتد لفترة زمنية أطول ، من عام 1914م وحتى عام 1943م
مما سبق يتضح بأن الطيب صالح ابتدع شكلا فنيا ناضجا يخضع لصياغة خصبة شفافة تكشف عن خلفيات الموضوع وتبرز المواقف داخل تكوينات فنية رائعة تشرف الاداع الروائي العربي.
ونواصل
سيف الدين عيسى مختار
|